في تطور جديد يُعد خطوة واعدة في عالم الذكاء الاصطناعي، كشف باحثون يابانيون عن جهاز فريد من نوعه يحاكي بدقة قدرة العين البشرية على تمييز الألوان، ويعمل دون الحاجة إلى مصدر طاقة خارجي، هذا الجهاز، الذي طوره فريق من جامعة طوكيو للعلوم بقيادة الدكتور تاكاشي إيكونو، يشكل مشبكًا صناعيًا ذاتي التشغيل، مستوحى من آلية عمل المشابك العصبية في الدماغ، ويُتوقع أن يُحدث نقلة نوعية في قدرات الرؤية لدى أنظمة الذكاء الاصطناعي، خصوصًا في الأجهزة الطرفية منخفضة الطاقة.
ما يميز الابتكار الجديد هو قدرته الفائقة على تمييز الألوان ضمن الطيف المرئي بدقة تصل إلى 10 نانومتر، وهي دقة تقارب ما تستطيع العين البشرية إدراكه، بخلاف الأنظمة التقليدية التي تعتمد على مصادر طاقة خارجية وتعاني من ارتفاع في استهلاك الموارد عند تحليل الصور، يستطيع هذا الجهاز توليد طاقته من خلال خلايا شمسية مدمجة، ما يجعله مناسبًا للاستخدام في الهواتف الذكية، الأجهزة القابلة للارتداء، والمركبات ذاتية القيادة.
ولم يكن التحدي تقنيًا فحسب، بل فلسفيًا أيضًا، حيث سعى الباحثون لمحاكاة الطريقة التي ينتقي بها الدماغ البشري المعلومات البصرية بدلًا من معالجتها بالكامل، العين البشرية لا تنقل كل ما تراه، بل تُصفّي المعلومات بناءً على الأهمية، وهذا ما حاول الجهاز الجديد تقليده من خلال بنية تحاكي الحوسبة العصبية التي تعتمد على نهج انتقائي وكفء في تحليل البيانات.
الجهاز بُني باستخدام نوعين من الخلايا الشمسية الحساسة للأصباغ، حيث يستجيب كل نوع لطول موجي مختلف من الضوء، ما يسمح له بتمييز الألوان بدقة لونية استثنائية، الأهم من ذلك، أن هذه العملية تتم دون الحاجة إلى بطاريات أو مصادر طاقة إضافية، مما يقلل بشكل كبير من استهلاك الطاقة، وهي مشكلة لطالما واجهت أجهزة الذكاء الاصطناعي المخصصة للمهام البصرية.
ولإثبات فعالية هذا الابتكار، تم دمجه ضمن نظام يُعرف باسم "الحوسبة الفيزيائية بالخزان" (Physical Reservoir Computing)، الذي يحاكي طريقة الدماغ في معالجة الإشارات، وخلال التجارب، استطاع الجهاز التمييز بين حركات بشرية مختلفة مثل المشي ورفع اليد، باستخدام تمثيلات لونية تعكس عناصر كالاتجاه والسرعة والشكل، نتائج هذه التجربة أظهرت دقة تصل إلى 82% في التعرف على 18 نوعًا مختلفًا من الحركات، ما يشير إلى قدرة الجهاز على التعامل مع معلومات بصرية معقدة وتحليلها بدقة عالية.
وتُظهر هذه النتائج إمكانات واسعة لدمج هذا الجهاز في مجالات متعددة، في قطاع السيارات الذاتية القيادة، يمكن أن يساعد في تحسين قدرة السيارات على تمييز الإشارات والعوائق، وفي مجال الرعاية الصحية، يمكن دمجه في الأجهزة القابلة للارتداء لمراقبة مؤشرات مثل الأكسجين في الدم، أما في مجال الإلكترونيات الاستهلاكية، فقد يؤدي إلى ابتكار هواتف ونظارات ذكية تتمتع بقدرات بصرية متقدمة مع استهلاك منخفض للطاقة.
يتوقع الدكتور إيكونو أن يؤدي هذا الابتكار إلى تحوّل جذري في تطوير أنظمة رؤية آلية تتميز بالكفاءة، والدقة اللونية، وانخفاض استهلاك الطاقة، وهو ما يمثل عاملًا حاسمًا في عصر تتجه فيه الأجهزة إلى أن تكون أكثر ذكاءً واستقلالًا من الناحية الطاقية، كما يرى أن الإمكانيات المستقبلية تشمل أيضًا استخدامه في الحساسات البصرية والمستشعرات الحيوية، بل وربما يفتح الباب أمام جيل جديد من الروبوتات القادرة على فهم محيطها البصري بنفس دقة العين البشرية.
لا يُعد هذا الإنجاز خطوة تقنية فقط، بل هو انعكاس لتقاطع المعرفة بين علم الأعصاب وعلوم الهندسة الإلكترونية، وإذا ما تم تطوير هذه التكنولوجيا على نطاق واسع، فقد نشهد في السنوات القليلة المقبلة تحولًا حقيقيًا في كيفية تفاعل الآلات مع العالم من حولها، إذ ستصبح قادرة على “الرؤية” بشكل أقرب إلى الإنسان، ولكن بقدرات لا تعرف التعب ولا الحاجة لإعادة الشحن.