نشرت صحيفة "أم القرى" التفاصيل الكاملة للكود السعودي لمصادر المياه واستخداماتها، والذي أتى إنفاذاً لقرار مجلس الوزراء رقم (710) بتاريخ التاسع من شهر ذو القعدة لعام 1441هـ، والمُصادق عليه بالمرسوم الملكي رقم (م/159) الصادر في الحادي عشر من الشهر ذاته، ويُمثّل هذا الكود وثيقة وطنية شاملة أعدّتها وزارة البيئة والمياه والزراعة، ضمن إطار زمني حُدّد بسنتين من تاريخ نفاذ النظام، وفق ما نصّ عليه البند الثالث من القرار، الذي أوكل للوزارة مسؤولية إعداد الوثيقة وتحديثها بصورة مستمرة بما يواكب مستجدات القطاع المائي والتحديات المناخية والبيئية المتغيرة.
وانطلاقًا من هذا التكليف النظامي، باشرت الوزارة عملها الفني والتنظيمي عبر مراجعة شاملة للتقارير والدراسات السابقة المتعلقة بمصادر المياه المتوفرة في المملكة، سواء كانت مياهًا سطحية أو جوفية أو مياهًا غير تقليدية مثل المياه المعالجة، واعتمدت الوزارة في بناء الكود على المراجعة المقارنة لأكواد المياه الدولية، لا سيما تلك الصادرة في مناطق تشهد ظروفًا مناخية مشابهة، مثل الولايات الأمريكية الجنوبية الغربية، التي تنتمي لمناخ جاف، بالإضافة إلى تجارب بعض الدول في إفريقيا وآسيا التي تواجه تحديات مناخية مشابهة لتلك التي تمر بها المناطق الغربية والجنوبية الغربية من المملكة.
ويُعد هذا الكود بمثابة تشريع فني وتقني متكامل، يهدف إلى تنظيم استخدامات مصادر المياه في المملكة بطريقة تُراعي الاستدامة البيئية والعدالة الاجتماعية والكفاءة الاقتصاديةـ، وقد راعت الوزارة في إعداد هذا الكود التباين في البيئات التشريعية حول العالم، حيث تختلف فلسفة الكود من دولة إلى أخرى باختلاف أنظمتها القانونية والإدارية، مما استدعى إعداد كود محلي يتوافق مع متطلبات النظام السعودي ويستفيد في الوقت نفسه من الخبرات الدولية المتقدمة في هذا المجال.
وقد كشفت دراسة الأكواد العالمية أن أبرز النماذج نضجًا وتقدمًا هي تلك المطبقة في الولايات الأمريكية ذات المناخ الجاف، والتي بدأ العمل ببعضها منذ أوائل القرن العشرين، كما تم الاستئناس بالكود النموذجي الصادر عن الجمعية الأمريكية للمهندسين المدنيين، الذي يُعد مرجعًا عالميًا شاملاً راجع أكواد المياه في الولايات الأمريكية بمختلف مناخاتها، ما وفر أساسًا متينًا لإنشاء كود سعودي بمواصفات دقيقة وعملية.
ويتماشى الكود السعودي لمصادر المياه واستخداماتها مع البيئة التنظيمية السعودية، حيث بُني على أساس نظام المياه ولائحته التنفيذية، واستند إلى الشروط والضوابط التي سبق أن أصدرتها وزارة البيئة والمياه والزراعة، وقد جاء الكود ليكمل الإطار التنظيمي القائم، من خلال وضع آليات زمنية واضحة لتنفيذ الأعمال الفنية المرتبطة بالمياه، وتحديد المرجعية التشريعية لصياغة السياسات المائية واتخاذ القرارات ذات الصلة.
كما يرسّخ الكود مبادئ المشاركة المجتمعية ويعزز من آليات الحوكمة، حيث يتضمن إجراءات واضحة تضمن إشراك الجهات ذات العلاقة، وتمكين المجتمع من المساهمة في تقييم السياسات المائية، من خلال آليات تستند إلى قواعد علمية وبيانات دقيقة تم التحقق من صحتها، ويُؤسس هذا النهج التشاركي لثقافة مؤسساتية تعتمد الشفافية والمسؤولية في اتخاذ القرار، وتُعزز من قبول السياسات التي تُسهم في حماية المصادر المائية وتنميتها.
وينطلق الكود كذلك من أسس اقتصادية واجتماعية وبيئية متكاملة، حيث يأخذ في الاعتبار عدداً من المبادئ الأساسية التي تنعكس في آليات اتخاذ القرار، ويهدف إلى تفعيل الاستخدام الأمثل للمياه باعتبارها مورداً استراتيجياً يخدم المصالح الوطنية والأمن المائي للمملكة، وقد تم تضمين الكود مواد تنظم العلاقة بين الجهات الحكومية والمستفيدين، وتوضح متطلبات الترخيص، وشروط سحب المياه، ومعايير الحفاظ على الموارد، وتقييم المخاطر، وآليات التوزيع العادل بين القطاعات المختلفة.
وفي جانب العلاقة مع النظام الأساسي للحكم، بُني الكود على نصوص تشريعية راسخة، أبرزها ما ورد في المادة الرابعة عشرة من النظام، التي تنص على أن جميع الثروات التي أودعها الله في باطن الأرض أو ظاهرها، أو في المياه الإقليمية، أو في النطاق البري والبحري الذي يمتد إليه اختصاص الدولة، تعتبر من موارد الدولة، ويُحدد النظام وسائل استغلالها وحمايتها وتنميتها لما فيه مصلحة الدولة وأمنها واقتصادها، وعليه، فقد رُوعي في صياغة الكود أن يُترجم هذه المبادئ إلى قواعد إجرائية واضحة تُسهم في حوكمة الموارد المائية وتحقيق الاستدامة.
لقد وفّر نظام المياه واللائحة التنفيذية أرضية قانونية متينة لتنظيم استخدامات المياه، غير أن الحاجة إلى أداة فنية معيارية تنسجم مع الممارسات العالمية لا تزال قائمة، وهو ما سعى الكود إلى تحقيقه من خلال تقديم وثيقة مرجعية تُمكّن الجهات التنفيذية من إدارة الموارد المائية بأسلوب علمي ممنهج، ويحدّد مسؤوليات كل طرف بدقة، ويُوفّر مخرجات تدعم اتخاذ القرار على أسس زمنية وتشريعية واضحة.
ويُرافق الكود السعودي إصدار عدد من الأدلة الفنية والاسترشادية التي توضح تطبيقاته وتُسهّل فهم مضامينه من قبل العاملين في القطاع، سواء في الجهات الحكومية أو القطاعات الخاصة أو مؤسسات المجتمع المدني، ومن المتوقع أن يُشكّل هذا الكود أداة فعالة لتحسين كفاءة استغلال المياه، والحد من الهدر، ورفع وعي المجتمع بقيمة المياه، كما يعزز دور المملكة في قيادة الجهود الإقليمية والدولية في إدارة المياه، تماشيًا مع أهداف رؤية السعودية 2030 في بعدها البيئي والتنموي.