في تطور يعكس تنامي جاذبية السوق المالية السعودية على المستوى العالمي، بدأ عدد متزايد من كبار المستثمرين في وول ستريت بالإقبال على تداول المشتقات المدرجة في البورصة السعودية، وسط مؤشرات على اهتمام متنامٍ من المؤسسات المالية الدولية بالفرص الاستثمارية في أكبر اقتصاد بالمنطقة، ويأتي هذا التوجه في أعقاب حزمة من الإصلاحات والتحديثات التنظيمية والتقنية التي أدخلتها السوق المالية السعودية "تداول"، بهدف زيادة عمق السوق وتنويع أدواته الاستثمارية.
ويُنظر إلى دخول تجار وول ستريت إلى سوق المشتقات السعودية بوصفه نقلة نوعية في مستوى التكامل بين الأسواق المالية العالمية والسوق السعودية، خاصة في ظل ما تشهده الأخيرة من توسع في أدوات التحوط وإدارة المخاطر، وتُعد عقود المؤشرات المستقبلية من أبرز المشتقات التي تلقى إقبالاً من المتداولين الدوليين، لاسيما بعد إدراج عقود مؤشر "إم تي 30" كأول منتج مشتق في السوق المحلية، وتبعها منتجات أخرى موجهة للمستثمرين المحترفين.
ويُعزى هذا الاهتمام إلى مجموعة من العوامل، أبرزها الاستقرار المالي الذي تشهده المملكة، والإصلاحات المتواصلة التي دفعت وكالات التصنيف العالمية إلى رفع تقييم الاقتصاد السعودي، كما أن انضمام السوق السعودية إلى مؤشرات الأسواق الناشئة العالمية، مثل "فوتسي" و"مورغان ستانلي"، زاد من انكشافها على المؤسسات المالية الكبرى، ومهّد الطريق أمام تدفقات استثمارية نوعية إلى أدوات أكثر تعقيدًا، كالخيارات والعقود المستقبلية.
وتعد سوق المشتقات بطبيعتها أداة فاعلة لإدارة المخاطر والتحوط ضد تقلبات الأسواق، وهو ما يجعلها من المنتجات المفضلة لدى مديري الصناديق والمستثمرين المؤسسيين، خصوصًا في بيئات تتسم بتقلبات جيوسياسية واقتصادية، وفي الحالة السعودية، فإن الاستقرار النسبي، مقرونًا بالرؤية الاقتصادية الطموحة، يعزز من ثقة المستثمرين الأجانب في دخول السوق عبر أدوات ذات طبيعة مركبة لكنها عالية العائد.
ويُجمع خبراء أسواق المال على أن الإقبال الدولي على المشتقات السعودية لا يرتبط فقط بمستوى العائدات المتوقعة، بل أيضًا بجودة البنية التحتية للسوق، ومدى نضج الإطار التشريعي والتنظيمي، فالسوق المالية السعودية أصبحت من بين القلائل في المنطقة التي تقدم منتجات مشتقات ضمن بيئة منظمة بالكامل، وتخضع لرقابة صارمة من هيئة السوق المالية، ما يقلل من مستويات المخاطر القانونية والتنفيذية للمستثمر الأجنبي.
وقد ساهمت "مجموعة تداول السعودية" في تعزيز هذا التوجه من خلال إطلاق سوق المشتقات رسميًا في عام 2020، ثم توسعتها تدريجيًا، وتهيئة البنية التحتية الفنية والقانونية اللازمة لدعم عمليات التداول للمستثمرين المحليين والدوليين، كما تم تطوير منصة "مقاصة" كجهة مقابلة مركزية، تضمن تنفيذ العقود بكفاءة وشفافية، وتحافظ على توازن المخاطر بين الأطراف.
ويبدو أن هذا الزخم يعكس أيضًا تغيّرًا في عقلية المستثمرين الدوليين تجاه المنطقة، إذ لم تعد أسواق الخليج، وعلى رأسها السعودية، مجرد منصات تقليدية للأسهم، بل أصبحت حاضنات لأدوات مالية متقدمة تضاهي نظيراتها في الأسواق المتقدمة، كما يشير الإقبال على المشتقات إلى رغبة في التعامل مع السوق السعودية بوصفها جزءًا من المحافظ العالمية النشطة، لا فقط كفرصة استثمارية وقتية.
من جهتها، تؤكد الجهات التنظيمية في السعودية أن تعزيز سوق المشتقات يأتي في إطار رؤية أوسع لتطوير القطاع المالي، وتنويع الاقتصاد، ورفع مساهمة السوق المالية في الناتج المحلي الإجمالي، وتشير التوقعات إلى أن المرحلة القادمة ستشهد إدراج أدوات جديدة ضمن سوق المشتقات، تشمل العقود المستقبلية على الأسهم الفردية، وخيارات التداول، ما سيزيد من عمق السوق، ويوفر فرصًا إضافية للمستثمرين العالميين والمحليين على حد سواء.