في لحظة إنسانية نادرة امتزج فيها العلم بالمروءة، تحوّلت نزهة عائلية إلى موقف بطولي دوّى صداه في أرجاء محافظة خميس مشيط جنوب غرب السعودية، حين سارعت شقيقتان طالبتان في كلية الطب إلى إنقاذ مواطن كان على وشك أن يفقد حياته.
لم يكن في حسبان ناردين ودارين القحطاني، الطالبتين في السنة الثالثة بجامعة الملك خالد، أن يكون يوم الراحة العائلية بداية لقصة تُروى بفخر.
كان الرجل، الذي خرج للعشاء مع زوجته وطفله الرضيع، يلفظ أنفاسه بصعوبة، اختناق مفاجئ خلال تناول الطعام كاد ينهي حياته وسط ذهول أسرته وارتباك الموجودين، قبل أن تلاحظ الشقيقتان الموقف وتدركا بحسّ الطبيبة قبل تخرجها أن كل ثانية تمر قد تكون الأخيرة.
بلا تردد، تقدمت ناردين نحو أحد الحاضرين لتوجهه إلى تنفيذ تقنية الإنقاذ المناسبة لحالة انسداد مجرى الهواء، مستخدمة ما تعلمته في مقاعد الدراسة، فيما تولّت دارين الاتصال بالهلال الأحمر وقدّمت شرحاً طبياً دقيقاً عن حالة المصاب، ما ساعد في تسريع استجابة الطاقم الطبي.
لم تقف الأختان عند حدود الإسعاف الأولي، بل تابعتا الحالة لحظة بلحظة، واهتمتا بتهدئة أسرة المصاب وخصوصاً طفله الرضيع الذي بدا مرتبكاً أمام مشهد لم تستوعبه براءته، أظهرتا في تلك الدقائق المعدودة نضجاً يفوق سنوات عمرهما، ووضعاً إنسانياً لا يتحمله كثير من الجراحين المتخصصين بسهولة.
وتحدثت دارين لـ"العربية،نت" عن تلك اللحظات الحرجة، وقالت إن الأمر بدأ بملاحظة علامات الاختناق على الرجل الجالس إلى الطاولة المقابلة، فاندفعت وشقيقتها نحوه دون تفكير، مشاعر الخوف التي ارتسمت على وجوه الحضور كانت وقودًا لسرعة تحركهما، وشعورًا داخليًا بالمسؤولية يسبق حتى أي أوامر أو تعليمات.
عشر دقائق كانت الفاصل بين الأزمة والحل، وهو الوقت الذي استغرقته فرق الهلال الأحمر للوصول إلى الموقع، وفي تلك الدقائق، كانت الشقيقتان قد قامتا بتثبيت الوضع قدر المستطاع، وطمأنة الأسرة، وتنسيق الإسعافات الأولية مع أحد المتطوعين الموجودين في المكان.
وحين وصل المسعفون، وُضعت الكمامة لتزويد الرجل بالأكسجين، وفُحصت علاماته الحيوية التي أشارت في البداية إلى معاناة مستمرة من الغثيان وألم الحنجرة، مع صعوبة في الوقوف، لكن بعد دقائق من العناية الميدانية، بدأ الرجل يستعيد عافيته شيئاً فشيئاً حتى تمكن من الوقوف على قدميه.
وقد أكد الفريق الطبي أن التدخل السريع من قبل الشقيقتين أسهم بشكل حاسم في إنقاذ حياة المصاب، ومنع تدهور حالته إلى وضع قد يصبح قاتلاً، مشيدين بالتصرف الاحترافي الذي يدل على وعي تدريبي وتمرس نادر في هذا العمر.
الجامعة التي تنتمي إليها الشقيقتان كرّمتهما لاحقاً أمام زملائهما، في مشهد حمل كثيراً من الفخر والامتنان، ليس فقط لما فعلتاه، بل لما يمثلانه من نموذج لطالب الطب الذي يخرج من إطار الدراسة إلى قلب الحياة، وقد عبّر عميد كلية الطب عن تقديره لما بدر منهما، واصفًا تدخلهما بأنه "درس عملي في قيمة الإنسان قبل الطبيب".
القصة التي تفاعلت معها مواقع التواصل السعودية، حملت رسائل تتجاوز الفخر العائلي أو الجامعي، لترسّخ مفهوماً يُعلي من شأن المبادرة والمسؤولية في لحظات لا تقبل التردد، ووسط عالم يشكو أحياناً من فقدان القيم وسط الزحام، كان الموقف درساً صامتاً في الرحمة.
وربما ما يضاعف من أثر القصة أن الحادثة وقعت في مكان عام، وأن ما قامت به الشقيقتان لم يكن موجهًا لكسب أضواء ولا عدسات، بل بدافع داخلي خالص للنجدة، فقد تعلّمتا في سنوات قليلة أن الطب ليس حرفة، بل رسالة تبدأ بالاستجابة لنداء الحياة.
قصة دارين وناردين القحطاني ستظل عالقة في ذاكرة من شهدوا اللحظة، لا كحكاية بطولة فقط، بل كعلامة مضيئة لما يمكن أن يكون عليه مستقبل الطب في المملكة، حين يكون محفوفًا بالقيم، ومدفوعًا بالإنسانية.