شهدت العلاقة بين شركات التكنولوجيا والقطاع العسكري الأمريكي منعطفًا جديدًا مع إعلان وزارة الدفاع الأمريكية توقيع عقد ضخم مع شركة OpenAI، بقيمة تصل إلى 200 مليون دولار، خطوة تحمل في طياتها تحوّلًا جذريًا في كيفية توظيف الذكاء الاصطناعي في الدفاع، وتفتح بابًا واسعًا أمام شراكات مشابهة في المستقبل القريب.
العقد الذي أُعلن عنه في 18 يونيو 2025، يأتي في إطار مساعي البنتاغون لتحديث أدواته الدفاعية واللوجستية، اعتمادًا على تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة، وبخاصة في مجال الأمن السيبراني الاستباقي، وهو ما وصفته الوزارة بأنه "تحرك استراتيجي لمواجهة التحديات الجديدة في ميادين القتال والإدارة العسكرية".
وبحسب البيان الرسمي، فإن OpenAI ستطور نماذج أولية ذات قدرات عالية في تحليل البيانات واتخاذ القرار بسرعة، لتلبية متطلبات الأمن القومي، وتشمل هذه المهام مجالات حساسة، مثل الدفاع السيبراني وتحسين كفاءة الأنظمة الإدارية داخل المؤسسة العسكرية.
من جهتها، أوضحت شركة OpenAI أن العقد الجديد هو أول مشروع ضمن مبادرتها لتقديم أدوات الذكاء الاصطناعي للقطاع الحكومي الأمريكي، بدءًا من المستويات الفيدرالية وحتى المحلية، وأكدت أنها ستوفر نماذج ذكاء اصطناعي مصممة خصيصًا لمهام محددة، مع احترام السياسات الأخلاقية المعتمدة.
رغم هذه الطمأنات، فإن الشركة لا تزال تواجه انتقادات منذ أن عدّلت شروط استخدام تقنياتها في 2024، وأزالت الحظر الصريح على التطبيقات العسكرية، الأمر الذي أثار قلق بعض الجهات الحقوقية والعلمية بشأن إمكانية توظيف الذكاء الاصطناعي في تطوير أدوات قاتلة أو اتخاذ قرارات قتالية دون تدخل بشري مباشر.
لكن OpenAI سارعت لتوضيح أن استخدام تقنياتها سيبقى محدودًا ومراقبًا، وأنها لا تسمح بتاتًا باستخدامها في تطوير الأسلحة أو إلحاق الأذى بالبشر أو الممتلكات، مشددة على التزامها بسياسات واضحة تضمن توجيه الذكاء الاصطناعي نحو أهداف سلمية ومجتمعية.
وتنص بنود العقد أيضًا على دعم خدمات الرعاية الصحية للقوات المسلحة وعائلاتهم باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك تحسين الوصول إلى البيانات الطبية، وتبسيط الإجراءات الإدارية المتعلقة بالمشتريات العسكرية.
كما يشمل التعاون تطوير أدوات رقمية لتحليل كميات ضخمة من البيانات، ما يُسهم في تسريع عمليات اتخاذ القرار في الأزمات، وهو ما يعتبره مسؤولون بالبنتاغون جزءًا من عملية تحديث الجيش الأمريكي ليواكب تحديات الحروب الحديثة.
العقد الجديد لم يكن مفاجئًا تمامًا، إذ سبقته إشارات عديدة لتوجه OpenAI نحو العمل مع شركاء في القطاع الدفاعي، أبرزها تعاونها في نهاية 2024 مع شركة Anduril لتطوير أنظمة مكافحة الطائرات المسيّرة، وهي شراكة فتحت الباب أمام احتمالات أوسع لتداخل الذكاء الاصطناعي في الأنظمة الدفاعية.
وفي السياق نفسه، أعلنت شركات أخرى كبرى مثل Anthropic وGoogle وMeta عن تخفيف بعض قيودها الداخلية بخصوص الاستخدامات العسكرية لتقنياتها، مما يعكس تحوّلًا أوسع على مستوى وادي السيليكون في التعاطي مع العروض القادمة من المؤسسات الدفاعية.
ويرى مراقبون أن هذا الاتجاه يعكس اعترافًا ضمنيًا بأن الذكاء الاصطناعي بات أداة لا غنى عنها في المعادلات الجيوسياسية والدفاعية العالمية، وأن الدول التي ستتمكن من امتلاك أفضل النماذج وأكثرها تطورًا ستكون في موقع متقدم في أي صراع مستقبلي.
وفي حين تبقى الأسئلة الأخلاقية محل نقاش، يبدو أن قطار التعاون بين شركات الذكاء الاصطناعي والبنتاغون قد انطلق فعليًا، وأن المرحلة القادمة ستشهد المزيد من التداخل بين ما يُنتج في مختبرات وادي السيليكون وما يُستخدم في ميدان المعركة.
هذا العقد يمثل إعلانًا صريحًا بأن الذكاء الاصطناعي لم يعد حكرًا على الشركات والتطبيقات المدنية، بل بات عنصرًا جوهريًا في استراتيجيات الأمن القومي، في وقت تتسارع فيه وتيرة التحولات التكنولوجية والعسكرية على مستوى العالم.