في مشهد روحاني مهيب، تملؤه السكينة وتغمره الطمأنينة، عبّر حجاج بيت الله الحرام عن مشاعرهم العميقة التي اختلط فيها الرضا بالفرح، عقب التحلل من الإحرام والانتهاء من رمي الجمرات في مشعر منى، هذا الحدث العظيم، الذي يتزامن مع عيد الأضحى المبارك، لم يكن مجرد مناسبة شعائرية عابرة، بل لحظة إيمانية متكاملة تفيض بالدلالات الروحية والإنسانية، وترتقي بالنفس المؤمنة إلى آفاق من الصفاء واليقين، حيث تتجسد أعظم معاني الطاعة والامتثال في أبهى صورها، وتتلاقى الأرواح في ساحة الرحمة الإلهية، متجاوزة الحواجز اللغوية والثقافية والجغرافية.
وفي أجواء يعلوها الدعاء وتتخللها مشاعر البهجة، توحدت قلوب الحجاج رغم اختلاف أوطانهم وأعراقهم، ليشاركوا فرحتهم بعيد الأضحى من قلب المشاعر المقدسة، لقد تناثرت التهاني والتبريكات بينهم، وارتفعت الأيادي بالهواتف لتوثيق لحظات العيد السعيد، مُرسلين رسائلهم المصورة إلى الأهل والأصدقاء، ومؤكدين من خلال كلماتهم المفعمة بالشكر والامتنان، أن أداء هذه الفريضة المباركة، والاحتفال بالعيد في رحاب مكة المكرمة، يمثل لهم ذروة السعادة والرضا.
وكانت لغة المشاعر أبلغ من كل خطاب، إذ عبّر الحجاج عن امتنانهم العميق لله سبحانه وتعالى الذي أكرمهم ببلوغ هذه الأيام المباركة، وأتاح لهم أداء مناسك الحج في أمن وسلام، وقد بدت على ملامحهم إشراقات الفرح، واختلطت الدموع بالابتسامات، في مشهد يصعب وصفه بالكلمات، لكنه يترسخ في القلب ويبقى أثره مدى الحياة، واعتبر الحجاج أن هذه اللحظات تمثل بالنسبة لهم محطة فارقة في رحلتهم الإيمانية، وهي مشاعر لا تُشترى ولا تُقدّر بثمن، بل هي فضل من الله ونعمة عظيمة تستحق الحمد والثناء.
كما تجلت مظاهر الحنين إلى الأهل والأحبة، حيث لم ينسَ الحجاج أولئك الذين لم تسعفهم الظروف لأداء الفريضة هذا العام، فكانت دعواتهم صادقة بأن يُكتب لهم الحج في القريب، وأن يجتمعوا بهم في مكة المكرمة مستقبلًا، وانطلقت عبارات الشوق من أفواه الحجاج بمختلف لغاتهم ولهجاتهم، لكنها كانت تصب في معنى واحد؛ هو الحب والسلام والدعاء بالخير للجميع، وهو ما يعكس رسالة الحج الحقيقية، التي تتجاوز الأطر الفردية إلى رسالة إنسانية شاملة، تؤكد أن التآلف والتراحم هو جوهر هذا الركن العظيم من أركان الإسلام.
وفي تفاصيل المشهد، لم تكن مظاهر العيد مقتصرة على مظاهر الفرح الظاهرية فحسب، بل امتدت إلى مستويات أعمق من التواصل الروحي، حيث عبّر الحجاج عن إحساسهم بأن الحج ليس مجرد طقوس تُؤدى، بل هو تجربة شعورية خالصة تتطهر فيها القلوب من الأدران، وتُجدد فيها العهود مع الله، وتُصفّى فيها النوايا، ويُعاد فيها بناء العلاقة بين الإنسان وربه على أسس من الصفاء والتسليم.
ولم يقف الأمر عند حدود التعبير عن المشاعر، بل تحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى منصات مفتوحة لتوثيق هذه اللحظات الاستثنائية، إذ بثّ الحجاج صورهم ومقاطعهم المصورة من مشعر منى والمشاعر المقدسة، وهم يرتدون ملابس الإحرام أو ملابس العيد، ويتبادلون التهاني بأكثر من لغة، مؤكدين أن هذا العيد يحمل في طياته رسالة عالمية تُعيد للإنسانية توازنها، وتذكرها بأن ما يجمع البشر أكثر بكثير مما يفرقهم.
ومن اللافت في هذا السياق أن تنوع الحجاج وتعدد ثقافاتهم لم يكن حاجزًا أمام وحدة الشعور، بل كان مصدر غنى لهذه اللحظة التاريخية، حيث التقت الأرواح على نغمة واحدة من الدعاء والرضا، وقد أجمع كثير من الحجاج في أحاديثهم على أن تجربة العيد في المشاعر المقدسة تمثل ذروة الصفاء الروحي، مؤكدين أنهم يشعرون بأنهم وُلدوا من جديد، وأن كل لحظة في هذه البقاع الطاهرة تُعيد صياغة أرواحهم بطريقة مختلفة تمامًا عن أي وقت مضى.
كما شهدت الساحات المحيطة بمشعر منى مواقف إنسانية عديدة، تجلت فيها مظاهر التعاون والمشاركة بين الحجاج، حيث حرص البعض على مشاركة طعام العيد وتبادل الهدايا الرمزية، وتقديم المساعدة لمن يحتاج، ما يعكس عمق التلاحم والتآزر الذي يميز هذه التجربة الإيمانية، ويجعل من الحج حدثًا عالميًا بروح إنسانية جامعة.
ويمكن القول إن هذه الأجواء المباركة تكشف عن بُعد عظيم في فلسفة الحج، يتمثل في كونه رحلة روحية متكاملة، تهذب النفس وتُحيي القلوب، وتُقرّب بين الشعوب والأمم، فمنذ لحظة الإحرام وحتى التحلل منه، يعيش الحاج تحولًا تدريجيًا على المستويين الروحي والسلوكي، ينعكس على رؤيته لنفسه وللآخرين، ويمنحه قدرة جديدة على تجاوز الضغائن، واستشعار النعم، وتقدير قيمة السكينة.
وفي نهاية هذه الرحلة، ومع لحظة العيد، تتوج هذه التجربة الإيمانية الكبرى بلحظة فرح لا تُشبه غيرها، حيث يصبح الحاج رسولًا للمحبة والسلام، يحمل في قلبه رسالة سامية إلى العالم، تقول إن التلاقي في أقدس بقاع الأرض ليس نهاية الرحلة، بل هو بدايتها، وإن من ذاق حلاوة هذه الأيام المباركة لا بد أن يعود إلى بلده حاملًا معها إشعاعًا أخلاقيًا وروحيًا يضيء حياته ويؤثر في محيطه.
وهكذا، تتجاوز مشاهد العيد في المشاعر المقدسة حدود الزمان والمكان، وتتحول إلى علامات خالدة في الذاكرة الإيمانية لكل من كتب الله له أن يكون من وفد الحجاج، فتظل محفورة في القلب والوجدان كأسمى لحظة التقت فيها الطاعة بالفرح، والعبادة بالحب، والروح بالجسد، في ساحة الصفاء الإلهي.