تشهد العاصمة الليبية طرابلس منذ مساء الثلاثاء تصعيداً عسكرياً خطيراً أربك المشهد الأمني وخلّف ضحايا وخسائر مادية، حيث اندلعت اشتباكات مسلحة عنيفة لليلة ثانية على التوالي بين وحدات تابعة لحكومة الوحدة الوطنية وقوات جهاز الردع لمكافحة الإرهاب، وسط انتشار كثيف للقوات المسلحة في أحياء متفرقة وتبادل للسيطرة على مناطق استراتيجية داخل المدينة وحولها.
وأفادت مصادر محلية أن عمليات إطلاق النار امتدت إلى أحياء سكنية عديدة، حيث انتشرت قوات الردع في محيط سوق الجمعة ومطار معيتيقة، بينما تبادلت الأطراف المتنازعة السيطرة على مناطق شمال وجنوب العاصمة، مما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى وخسائر جسيمة في الممتلكات العامة والخاصة، فيما اتخذت السلطات إجراءات احترازية طارئة تمثلت في إعلان حالة الطوارئ بعدة بلديات وتعليق الدراسة، كما تم تحويل مسار الرحلات الجوية من مطار معيتيقة إلى مطار مصراتة الدولي حفاظاً على سلامة المسافرين.
وتأتي هذه المواجهات بعد يوم واحد فقط من مقتل القيادي البارز عبد الغني الككلي المعروف بلقب "غنيوة" مؤسس ما كان يسمى بجهاز دعم الاستقرار، في عملية أمنية معقدة نفذت داخل معسكر تابع للواء 444، وفي محاولة لاحتواء الموقف المتفجر، سارعت وزارة الدفاع الليبية لإعلان بدء تنفيذ وقف إطلاق النار في طرابلس ونشرت وحدات محايدة في نقاط التماس لضمان تهدئة الأوضاع وحماية المدنيين، وأكدت الحكومة في بيان رسمي وقوفها خلف مؤسسات الجيش والشرطة النظامية وحدها، مطالبة جميع الفصائل المسلحة بالتوقف فوراً عن العمليات العسكرية، ومحذرة من التعامل بحزم مع أي جهة تخالف تلك التعليمات.
على الصعيد الدولي، تزايدت المخاوف وارتفعت الأصوات المنادية بضبط النفس، حيث أعربت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا (UNSMIL) عن قلقها العميق من استمرار العنف في مناطق مكتظة بالسكان ودعت إلى وقف فوري لإطلاق النار، كما طالبت سفارة فرنسا في طرابلس بإنهاء تصاعد الاشتباكات على الفور، وفي موقف حازم، شدد رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي على ضرورة وقف الاشتباكات فوراً دون قيد أو شرط، محملاً المسؤولية القانونية لكل من يخالف هذا التوجيه، ومناشداً جميع الأطراف تغليب لغة الحوار والمصلحة الوطنية العليا على المصالح الضيقة.
وفي خضم هذه التطورات، أعلنت الهيئات الإغاثية استنفارها التام، حيث رفع الهلال الأحمر الليبي درجة التأهب القصوى في طرابلس لمواجهة تداعيات الوضع الإنساني المتفاقم، ويندرج هذا القتال في العاصمة ضمن صراع أوسع على النفوذ بين فصائل عسكرية متنافسة وصل تعدادها لآلاف المسلحين منذ أحداث 2011، وبينما تصارع قوات الردع المرتبطة بالمجلس الرئاسي من جهة، كشفت التقارير الأمنية عن تصاعد الاشتباكات الشرسة مع كتائب لواء 444 قتال التابع لوزارة الدفاع في حكومة الوحدة الوطنية، مما يعكس انقساماً عميقاً داخل مؤسسات الدولة الليبية.
ويعتقد محللون سياسيون أن هذه المعارك تندرج ضمن استراتيجية حكومة الوحدة الوطنية لتفكيك وتحييد ما تبقى من الميليشيات الخارجة عن شرعية الدولة، حيث كان رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة قد أكد مراراً أن ليبيا لا تحتاج سوى لجيش وشرطة نظاميين، مشدداً على أنه "لا مكان في ليبيا إلا للمؤسسات النظامية"، مع تلويحه بضرب كل من يعرقل بناء الدولة بيد من حديد، وتأتي هذه التطورات بعد سلسلة قرارات حكومية بإلغاء إدارات مستقلة للأمن، تلاها سقوط معاقل مجموعة "غنيوة" أمام تقدم الكتائب الموالية للدبيبة، مما عزز من نفوذ المؤسسات الرسمية مقارنة بالفصائل المسلحة الأخرى المنتشرة في البلاد.