في أجواء روحانية تعبق بعظمة المكان وقدسية الرسالة، شهدت مكة المكرمة إطلاق واحدة من أكبر المبادرات الدينية والثقافية في العالم الإسلامي، تمثلت في تدشين أضخم حملة لإهداء المصاحف ونسخ القرآن الكريم وتراجمه إلى مختلف لغات العالم، الحملة التي انطلقت من مهبط الوحي، تأتي في إطار سعي المملكة العربية السعودية لتعزيز مكانتها في خدمة كتاب الله ونشره، وإيصاله إلى المسلمين وغير المسلمين في شتى أنحاء المعمورة بلغاتهم الأم، بهدف ترسيخ القيم الإسلامية الصحيحة ونشر رسالة الاعتدال والتسامح.
جاء الإعلان عن الحملة في مقر الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، حيث جرى التدشين برعاية وحضور عدد من كبار العلماء والمسؤولين والدعاة، وسط حضور إعلامي وجماهيري واسع، وتُعد هذه الحملة امتدادًا لجهود المملكة المستمرة في طباعة المصحف الشريف وتوزيعه، والتي تُجسّد اهتمام القيادة السعودية بخدمة الإسلام والمسلمين، وتأكيدًا على مكانة المملكة كمرجعية دينية في العالم الإسلامي، وحرصها الدائم على نشر تعاليم الدين الإسلامي الحنيف بالشكل الصحيح والمعتدل.
وتشمل الحملة، التي تُعد الأكبر من نوعها، توزيع مئات الآلاف من نسخ القرآن الكريم من إصدارات مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، والتي تتم طباعتها وفق أعلى معايير الدقة والجودة، وبخطوط معتمدة وتدقيق علمي من لجان شرعية متخصصة، كما تتضمن الحملة تزويد المساجد والمراكز الإسلامية والمكتبات العامة والخاصة حول العالم بنسخ من المصاحف بمختلف الأحجام، بالإضافة إلى تراجم معاني القرآن الكريم بأكثر من 76 لغة، تغطي معظم اللغات الحيّة المستخدمة في العالم.
ويُنتظر أن تُحدث هذه الحملة أثرًا كبيرًا على المستوى الثقافي والديني، لا سيما في الدول التي تعاني من شُحّ في مصادر المعرفة الدينية الصحيحة، حيث تُعزز هذه المبادرة من حضور الخطاب الإسلامي المعتدل في مواجهة موجات التطرف والتحريف وسوء الفهم، وستمكن المسلمين في تلك الدول من الوصول إلى كتاب الله بلغاتهم، ما يُسهم في تعزيز الوعي الديني القائم على النصوص الصحيحة والفهم السليم.
وقد أكد معالي الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشيخ الدكتور عبدالرحمن السديس أن هذه الحملة المباركة تأتي ترجمة لرؤية المملكة ورسالتها العالمية في خدمة القرآن الكريم، ونشره بصيغ علمية ومنهجية دقيقة، وأضاف أن هذه المبادرة تُجسد الدور الحضاري والدعوي الذي تقوم به المملكة تجاه المسلمين وغير المسلمين على حد سواء، مشيرًا إلى أن الحملة ستستمر على مراحل، لتشمل أكبر عدد ممكن من الدول والمجتمعات الإسلامية والجاليات المسلمة.
وشدد السديس على أن ما تقوم به المملكة في هذا المجال ليس جديدًا، بل هو امتداد لتاريخ مشرف من العطاء والبذل في خدمة كتاب الله، بدأ منذ تأسيس الدولة السعودية، وتواصل في عهد ملوكها، حتى بلغ ذروته في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسمو ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان، اللذين يوليان عناية خاصة بالمصحف الشريف ومجمع الملك فهد، والدعم غير المحدود لكل ما يخدم نشر القرآن الكريم وتيسير وصوله إلى كل بيت ومسجد ومدرسة.
وقد لاقت الحملة تفاعلًا كبيرًا من الجهات الرسمية والدولية، حيث أبدت عدد من المؤسسات الإسلامية العالمية، والمراكز الثقافية والدعوية، رغبتها في التعاون مع الحملة والمساهمة في توزيع المصاحف والتراجم على نطاق واسع، لا سيما في المناطق النائية والمجتمعات ذات الأقليات المسلمة، كما أطلقت الحملة منصات إلكترونية تتيح للمستخدمين من مختلف دول العالم طلب نسخ رقمية أو ورقية من المصحف بلغاتهم، في إطار توظيف التقنية الحديثة لخدمة رسالة الإسلام.
ويُتوقع أن تفتح هذه الحملة آفاقًا جديدة في التواصل الحضاري والدعوي مع غير المسلمين، إذ تُعد تراجم معاني القرآن الكريم وسيلة فعالة للتعريف بالإسلام من مصادره الأصلية، بعيدًا عن الصور النمطية أو التشويهات المغرضة، كما تسهم في بناء جسور من الفهم المتبادل بين المسلمين وغيرهم، وتعزز من قيم الحوار والتسامح والرحمة، التي يمثلها القرآن الكريم في جوهره ومضمونه.